مقدمة
نزلت في الفصل بين أهل
الشرائع السماوية ثلاث أيات في القرأن الكريم: كل آية أتت في سياق مختلف عن
الأخرى. فالأية الأولي جاءت في سورة
البقرة الآية 62. ونزلت بعد أن بين القرآن الكريم ما حل باليهود من عقوبات بسبب
جحودهم لنعم الله، وكفرهم بآياته. والأية الثانية أتت في سورة المائدة الاية 69،
للترغيب في الإيمان والعمل الصالح. والآية الثالثة في سورة الحج الأية 17 نزلت
للرد على المترددين في قبول الإسلام، وتجري مجرى تفويض الحكم لله بين الفرق التي عددتها الآية الكريمة.
والتفويض لله في الحكم لا يكون إلا من الواثق.
الآية الأولى أية سورة البقرة
- نص الآية كما نزلت على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
في سورة البقرة في الآية 62
يقول الله سبحانه وتعالي: "إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ
وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلصَّٰبِِٔينَ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ
وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ
وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ٦٢ ".
- التعريف بالفرق الأربع التي ذكرت في الآية الكريمة
الفرقة الأولى (المؤمنون): والمراد
بهم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وصدقوه، أي الذين اسلموا واصبحوا
يدينون بدين الإسلام وقيمه المباركة. القائم على الإِيمان الصادق والعمل الصالح. فالأفضلية بين
الأمم درجة ما وصلوا إليه من تقوى، مصداقا لقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ).
الفرقة الثانية (اليهود): وهم
الذين هادوا. وسمواً يهوداً نسبة إلى يهوذا أكبر أولاد سيدنا يعقوب صلاة الله عليه
وسلامه، بقلب الذال دالا في التعريب. أو سمواً يهودا حين تابوا من عبادة العجل.
والكلمة مأخوذة من هاد يهود هودا بمعنى تاب. ومنه ( إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ ) أي:
تينا.
الفرقة الثالثة (النصارى): والكلمة
مأخوذة من أنهم كانوا أنصاراً لسيدنا عيسى عليه وعلى سيدما محمد اتم الصلاة
والتسليم. وقيل أيضا إنها مأخوذ من الناصرة. وهي القرية التي كان سيدنا عيسى -
عليه السلام - قد نزلها.
الصابئون (الفرقة الرابعة): وهم
أتباع الصابئة. وكلمة الصابئة مشتقة من الجذر (صبا).
والذي يعني باللغة المندائية اصطبغ، غط أو غطس في الماء. وهي من أهم شعائرهم
الدينية. وهم أتباع أنبياء الله آدم، شيث، إدريس، نوح، سام بن نوح، يحيى بن زكريا.
ويوجد أتباع هذه الفرقة في العراق وفي إقليم الأهواز في إيران. ويطلق عليهم في
اللهجة العراقية "الصبّة. وتدعو هذه الديانة للإيمان بالله الواحد. ولكنهم
يجعلون بعد هذا الإله حوالي 360 شخصاً خلقوا ليفعلوا أفعال الإله. وهؤلاء الأشخاص
ليسوا بآلهة ولا ملائكة، يعملون كل شيء من رعد وبرق ومطر وشمس وليل ونهار… وهؤلاء
يعرفون الغيب. ولكل منهم مملكته في عالم الأنوار.
هؤلاء الأشخاص الـ 360 ليسوا مخلوقين كبقية الكائنات الحية. ولكن الله
ناداهم بأسمائهم فخلقوا وتزوجوا بنساء من صنفهم. ويتناسلون بأن يلفظ أحدهم كلمة
فتحمل أمرأته فوراً وتلد واحداً منهم..
اعتبر مشايخ المسلمين هذه الفرقة من أهل الذمة
لأن جميع شروط وأحكام أهل الذمة تنطبق عليهم، لكونهم أول ديانة موحدة، ولهم كتابهم
السماوي، وأنبيائهم التي تجلها جميع الأديان، مع ذكرهم بالقرآن الكريم. وعند دخول
سعد بن أبي وقاص للعراق وعدهم بالأمان.
سبب نزول آية سورة البقرة
نزلت هذه الآية في أصحاب سيدنا
سلمان الفارسي (السدي). فقد ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم خبر أصحابه قبل الأسلام
فقال: "كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك، أي النبي صلى الله عليه وسلم،
ويشهدون أنك ستبعث نبيا، فلما فرغ سيدنا سلمان من ثنائه عليهم. قال له نبي الله
صلى الله عليه وسلم: يا سلمان، هم من أهل النار. فاشتد ذلك على سيدنا سلمان، فأنزل
الله هذه الآية.
- تفسيرة آية سورة البقرة
وقد نزلت هذه الآية بعد أن ذم
الله بني إسرائيل, وذكر معاصيهم وقبائحهم وحتى لا يقع في بعض النفوس أن كل بني إسرائيل يشملهم الذم،
فأراد الباري تعالى أن يبين من لم يلحقه الذم منهم. وهم من أمنوا بسيدنا موسى
وساروا على ما جاء به من هدي ولم يحرفوا ويبدلوا فيما جاء بالألواح. وكذلك الحال
بالنسبة للنصارى والصابئين الذي امنوا بنبيهم واتبعوا النور الذي انزل معه. ولم
يحعلوا له شريكا ولا ندا ولا ولد. وهذه الآية نزلت ليتضح الحق, ويزول التوهم
والإشكال. أما الذين بلغتهم دعوة الإِسلام من تلك الفرق و لم يقبلوها؛ فإنهم لا
يكونون ناجين من عذاب الله مهما ادعوا بأنهم يؤمنون بغيرها، لأن الشريعة
الإِسلامية قد نسخت ما قبلها والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: " لو كان موسى
حياً ما وسعه إلا اتباعي".
وتذكر الآية أن المؤمنين
الذين يتبعون الرسول النبي الأمي لهم السعادة الأبدية، ولا خوف عليهم فيما
يستقبلونه، ولا هم يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه. كما قال تعالى: (ألا إن أولياء
الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [يونس: 62]. وكما تقول الملائكة للمؤمنين عند
الاحتضار في قوله: ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة
ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ) [ فصلت : 30 ] (ابن
كثير).
وحددت الآبة أنه من مَنۡ
ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ
عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ. آي إله تقصد
الاية؟ هل هو الإله الففير وصاحب اليد المغلولة كما يؤمن اليهود؟ أم الإله المتجسد
الذي له ولد كما يؤمن النصارى..أم الإله الذي يترك أمر الكون لاخرين كما يؤمن
الصابئون.. أما الإله المنزه عن كل نقص، والذي ليس كمثله شيء كما يؤمن المسلمون.
الآية الثانية أية سورة المائدة
في سورة المائدة في الآية 69
يقول الله سبحانه وتعالى: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى
من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون".
يذكر ابن عاشور في تفسيره أنّ
هذه الآية يجوز أن تكون استئنافاً بيانياً ناشئاً على تقدير سؤال يخطر في نفس
السامع لِقوله قبلها: { قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَسۡتُمۡ عَلَىٰ
شَيۡءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم
مِّن رَّبِّكُمۡۗ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن
رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۖ فَلَا تَأۡسَ عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ٦٨} [
المائدة : 68 ] فيسأل سائل عن حال من انقرضوا من أهل الكتاب قبل مجيء الإسلام: هل
هم على شيء أو ليسوا على شيء، وهل نفعهم اتّباع دينهم والاهتداء بهدي نبيهم دون
تحريف أو تبديلٍ؛ فوقع قوله: {إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا} الآية جواباً لهذا
السؤال المقدّر . والمراد بالّذين آمنوا المؤمنون بالله وبمحمّد صلى الله عليه
وسلم أي المسلمون.
ويجوز أن تكون هذه الجملة
مؤكِّدة لجملة {ولو أنّ أهل الكتاب آمنوا واتّقوا} [ المائدة : 65 ] الخ، فبعد
أن أُتبعت تلك الجملة بما أُتبعت به من الجُمل عاد الكلام بما يفيد معنى تلك
الجملة تأكيداً للوعد، ووصلاً لربط الكلام، وليُلحق بأهل الكتاب الصابئون، وليظهر
الاهتمام بذكر حال المسلمين في جنّات النّعيم.
فالتّصدير بذكر الّذين آمنوا
في طالعة المعدودين إدماج للتنويه بالمسلمين في هذه المناسبة، لأنّ المسلمين هم
المثال الصّالح في كمال الإيمان والتحرّز عن الغرور وعن تسرّب مسارب الشرك إلى
عقائدهم (كما بشّر بذلك النّبيء صلى الله عليه وسلم في خطبة حجّة الوداع بقوله: "إنّ
الشيطان قد يَئس أن يُعبد من دون الله في أرضكم هذه" ) فكان المسلمون،
لأنّهم الأوحدون في الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصّالح ، أوّلين في هذا
الفضل.
الآية الثالثة أية سورة الحج
وفي سورة الحج في الآية 17
يقول الله تجلى في علاه "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا
وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ
اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ". لقد زاد الله في هذه الاية طائفتين وهما المجوس والمشركين.
- تعريف المجوس (الفرقة الخامسة)
والمجوس قوم يعبدون الشمس
والقمر والنار. وقيل: هم قوم أخذوا من دين النصارى شيئاً، ومن دين اليهود شيئاً،
ويقولون: بأن للعالم أصلين: نوراً وظلمة. المجوس أهل دين يثبت إلهين: إلهاً
للخير، وإلهاً للشرّ، وهم أهل فارس. ثم تشعب منها كثير من النحل منها الزروانية و
الزَرَادَشْت و المَانوية والمزدكية. زكل هذه النحل تأوي إلى هذين الأصلين. والمجوس بعيدين كل البعد عن الإسلام ومبادئه وقيمه المباركة
- المشركون (الفرقة السادسة)
والمشركون هم من
أشركوا بالله. والمشهور أنهم عبدة الأصنام والأوثان، وقيل ما يشملهم ويشمل معهم
كل من اتخذ مع الله - تعالى - إلها آخر.
تفسير أية الحج
يقول ابن عاشور في تفسيره
لهذه الآية. لما اشتملت الآيات السابقة لها على بيان أحوال المترددين في قبول
الإسلام. كان ذلك مثاراً لأن يتساءل عن أحوال الفرق بعضهم مع بعض في مختلف الأديان.
وأن يسأل عن الدين الحق. لأن كل أمة تدَّعي أنها على الحق وغيرها على الباطل
وتجادل في ذلك. فبينت هذه الآية أن الفصل بين أهل الأديان فيما اختصموا فيه يكون
يوم القيامة يكون لله ولله وحده لا شريك له.
وهذا الكلام بما فيه من إجمال هو جار مجرى التفويض، ومثله يكون كناية عن تصويب المتكلم طريقته وتخطئته طريقة خصمه. لأن مثل ذلك التفويض لله لا يكون إلا من الواثق بأنه على الحق. وهو كقوله تعالى: {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير} [الشورى : 15]. وذلك من قبيل الكناية التعريضية. وذِكر المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين تقدم في آية البقرة وآية المائدة. وزاد في هذه الآية ذكر المجوس والمشركين. لأن الآيتين المتقدمتين كانتا في مساق بيان فضل التوحيد والإيمان بالله واليوم الآخر في كل زمان وفي كل أمة. وزيد في هذه السورة ذكر المجوس والمشركين. لأن هذه الآية مسوقة لبيان التفويض إلى الله في الحكم بين أهل المِلل. فالمجوس والمشركون ليسوا من أهل الإيمان بالله واليوم الآخر.
تعليقات